رحلتي
المحتويات
روحله واتكلم معاه.
هز رأسه قائلا بتأكيد
حاضر..
ماتشليش هم ...
ثم سحب ذراعه ليمسك بكأس العصير الموضوع أمامها وأصر عليها وهو يبتسم ابتسامة صغيرة
اشربي بس العصير ده وروقي دمك.
صارت الأيام متشابهة عليه لا جديد فيها ولا مكان متاح له ليعمل فيه يئس من ضيق ذات اليد ومن انعدام مصادر الدخل نضب ما في جيبه ولم يعد لديه ما ينفق به على بيته. سار متخاذل الأقدام بالكاد يحبس دموعه إلى أن بلغ منطقته الشعبية رفع عوض بصره للأعلى فوجد المسجد أمامه التجأ إليه فخلع نعليه وولج إلى الداخل قاصدا الوضوء أولا ليتطهر كان محيط المسجد خاليا لا يتواجد به أحد فمشى ببطء إلى أحد الأركان وافترش الأرضية جالسا على ركبتيه
يا رب كل أبواب الدنيا اتقفلت في وشي ومافيش غير بابك اللي دايما مفتوح ليا.
نكس رأسه في خزي قبل أن يدفن وجهه بين راحتيه متابعا شكواه
أنا مبقتش عارف أعمل إيه.
استمرت عيناه تبكيان وقلبه يتألم وهو لا يزال يبوح بما يطبق على صدره
محدش راضي يشغلني وأنا قليل الحيلة مابفهمش في حاجات كتير.
يا رب أنا ماليش غيرك وإنت الكريم الوهاب..
استفاض في مناجاته قائلا
انظر لي بعين الرأفة يا رحمن واكرمني بفضلك يا منعم!
ثم صمت عن الكلام وظل يسبح بحمد ربه إلى أن جاء من خلفه شيخ الجامع رجل خمسيني العمر نحيف له لحية رمادية اللون ووجه هادئ الملامح. جلس أمام عوض ووضع يده في حنو على كتفه متسائلا بوجه بشوش وباسم
تصنع الابتسام وهو يرد بعد تنهيدة طويلة مليئة بالأسى
الحمدلله يا شيخ عبد الستار أنا راضي بنصيبي وباللي ربنا قسمه ليا.
ألح عليه في تصميم
قول ما تكسفش.
أطلق العنان لما عبأ صدره من هموم وأثقال ولم يقاطعه الشيخ تركه حتى فرغ تماما ليخبره متبسما وكأنه يأتيه بالبشارة الطيبة
طب أنا عندي ليك حل بس مش عارف إن كان هيعجبك ولا لأ.
خير يا شيخنا
ظل محافظا على بسمته الهادئة وهو يوضح بهدوء
احنا دايما متعودين نعمل ليالي محمدية وإحياء للذكر في أماكن كتير وبنحتاج حد يساعدنا في نقل الحاجة وتوزيع الطلبات.
تحير فيما يريده منه وقرأ الشيخ هذه الحيرة في عينيه لذا سأله مباشرة
فإيه رأيك تبقى معانا
وكأن دعوته الصادقة قد استجيبت من فوق سبع سماوات فهتف متسائلا في غير تصديق بعدما انفرجت أساريره
أكد عليه بإيماءة إيجابية من رأسه
طبعا هي شغلانة بسيطة بس باب رزق يجيلك منه أي حاجة.
تهلل على الأخير وبدا مرحبا للغاية بهذه الوظيفة المتواضعة عندما قال
طالما بالحلال فأنا راضي.
ثم رفع بصره وكفيه للسماء شاكرا رب العزة على فيض نعمه
اللهم لك الحمد والشكر يا رب
ياما إنت كريم يا رب.
استحسن الشيخ ما يظهره من رضا وربت على كتفه في محبة فأسرع عوض بإمساك يده يريد تقبيلها وهو يقول في امتنان
سحبها في التو معاتبا إياه بنظرة صغيرة
استغفر الله احنا كلنا عبيد إحسانه جل وعلا.
وكأن روحه الملتاعة والمعذبة قد وجدت راحتها أخيرا بعد أيام من الشقاء والحزن لم يتوقف عوض عن ترديد عبارات الشكر والتضرع للمولى حتى خرج من المسجد يريد أن يطلع زوجته على الأنباء السارة.
دون ميعاد مسبق التقى به في غرفة مكتبه بمسكنه ليشاركه تناول المشروب ويدعي كذلك تباهيه بما اعتبره إنجازا جديدا في تطور علاقته ب تهاني. ملأ ممدوح كأسه بالمزيد من هذا النوع الفاخر من الخمر ووضع مكعبات الثلج فيه ليحمله مع الآخر الذي أعده لرفيقه ممتدحا تصرفه وهو يقترب من الأريكة ليجاوره في جلسته المسترخية
إنت جبار يا مهاب حقيقي ماشوفتش في حياتي حد زيك.
وضع الأخير ساقه فوق الأخرى بتفاخر وعقب بإيجاز وهذه النظرة المغترة تلمع في حدقتيه
ولسه!
تجرع قدرا كبيرا من الخمر بلعه دفعة واحدة وواصل الكلام
واحدة غيرها كان زمانها خلصت على نفسها عشان تترحم منك ومن اللي بتعمله فيها.
ضحك في زهو فأكمل ممدوح على نفس النهج المادح
دايما بتبهرني بأسلوبك.
أشار له مهاب بكأسه الذي يقبض عليه بيده وقال
اتعلم من الأستاذ.
كان ممدوح على وشك النطق بشيء لكن الطرقة الصغيرة على الباب جعلته يتوقف وينظر
إلى حيث أطلت المربية الأجنبية أومأت برأسها في خفة وأبدت اعتذارها اللبق قائلة
عذرا للمقاطعة سيدي...
سمح لها مهاب بالكلام فأوضحت بقليل من الضيق
لكن أوس يرفض تناول طعامه ولا يكف عن مناداة والدته.
الټفت ممدوح برأسه لينظر إلى رفيقه متفرسا بتدقيق في ملامحه رأى كيف غامت تعبيراته وكساها الوجوم أخفض مهاب كأسه الفارغ وأمرها
استدعيه إلى هنا.
ردت في طاعة قبل أن تغادر مسرعة لتحضره
كما تأمر سيدي.
في نوع من الفضول تساءل ممدوح بخبث
هتعمل معاه إيه
قبل أن يفكر في إجابته اقترح عليه دون تفكير
أنا من رأيي تألف أي حكاية تضحك بيه عليها وتريح دماغك ما إنت مش هتخلص من زن العيال.
لم يعلق عليه مهاب بكلمة فاستمر يضيف بنزق
أو الأحسن إنك تبعته مدرسة داخلي.
نظر له رفيقه بجمود قبل أن يحذره بصوت غير متساهل
موضوعه مايخصكش.
استشعر تحفزه من صوته فتراجع ضاحكا ضحكة مكشوفة ليعلل بعدها بسخافة
أنا بفكر معاك بصوت عالي.
تحول بناظريه تجاه الباب عندما اقتحم الصغير أوس الغرفة ركضا توقف أمام أبيه متسائلا دون تمهيد
فين ماما
اعتدل مهاب في جلسته المسترخية وأنزل ساقه لينظر إليه من مستواه قبل أن يضع قبضتيه على كتفيه مجيبا إياه
مسافرة.
في عناد طفولي رفض تصديق كذبته هاتفا بصوت منفعل
لأ أنا عاوزها خليها ترجع.
عامله بهدوء تام وقال
بعدين يا أوس أنا عاوزك تسمع الكلام وتاكل.
رفض الإصغاء إليه كليا أو حتى الاقتناع بما فاه به وركل بقدمه
الأرض في عصبية مواصلا الصړاخ
لأ إنت مشيتها من هنا أنا عاوزها.
ضجر ممدوح مما اعتبره تدللا لزجا وصاح فيه بصوت أجش
كفاية صداع يا ابني هي مش راجعة تاني حط ده في دماغك.
حينئذ تحولت نظرات أوس إليه وحدجه بكراهية صريحة قبل أن يتدخل والده لينهره عن التدخل فيما لا يعنيه وخاصة شأنه مع ابنه بقوله الصارم
ممدوح! ماتدخلش!
تلبك من إحراجه بهذا الشكل السافر وأمام من ابنه الذي لا يتجاوز طوله منتصف خصره رسم ابتسامة متكلفة على ثغره مرددا بتبرير
أنا حبيت أساعد.
كرر عليه رفيقه بتصميم شديد اللهجة
دي حاجة تخصني مع ابني!
نهض من جواره بوجه منقلب وهتف بعبوس مصحوب بنظرة ڼارية مسلطة على أوس تحديدا
اللي تشوفه.
النظرة الجادة في عيني مهاب مع نبرته الهادئة كانتا وسيلته لإقناع صغيره بالتخلي عن عناده الطفولي فاستطرد على مهل
بص يا حبيبي يومين وماما هترجع تاني بس عشانها غلطت وزعلت بابا جامد فاحنا مخاصمينها كام يوم فما ينفعش إنت كمان تزعلني! عاوزك تسمع الكلام وتاكل وأنا بنفسي هجيبها لحد عندك اتفقنا
بعد لحظة من الصمت المترقب اكتفى أوس بهز رأسه بالموافقة فاستحسن والده ردة فعله وقال في مدح
برافو عليك.
أخذه إلى حضنه وهمس له بشيء في أذنه لم يتمكن ممدوح من سماعه أو تفسيره بوضوح ليخاطب بعدها مهاب المربية بلهجته الآمرة
انتبهي إليه جيدا.
ردت باسمة
سمعا وطاعة.
ثم ضمت الصغير من كتفيه واصطحبته إلى الخارج ونظرات ممدوح عليهما حتى غابا عن المشهد ليقهقه هازئا وهو يعيد ملء كأسه بالخمر
حتى ابنك عرفت تضحك عليه!
تأمله مهاب مليا وبنظرة غامضة قبل أن يرد عليه
ومين قالك كده
توقف قبل أن يرفع الكأس إلى فمه متسائلا في ذهول مندهش
معقولة هترجع تهاني تاني
ومضت فكرة جهنمية في رأسه وأبت أن تبارح عقله بسهولة كل ما فكر فيه لحظتها هو تطبيقها لهذا أجابه مؤكدا باسترخاء واضح عليه
أيوه.
رغم أن سنوات الصداقة بينهما ممتدة إلا أنه لم يستطع سبر أغوار ما يدور في رأسه بسهولة تحرك ممدوح صوبه مرددا في استغراب حائر
إنت غريب بجد وأنا مابقتش فاهمك بصراحة.
ترك حيرته تأكله فاغتاظ من تجاهله المستفز وسأله في تبرم وهو يعاود الجلوس
على الأريكة
لما إنت هتردها تاني ليه من الأساس طلقتها
بدا مهاب لحظتها وكأن نظراته شردت بعيدا متذكرا الشجاعة التي كانت عليها في مواجهته ليقول بعدها
بربيها أو تقدر تقول بكسر مناخيرها وأذلها أكتر.
ظل رفيقه يتابعه بعينين تعكسان تعجبه من موقفه ومهاب لا يزال يتكلم
مش عاوزها في يوم تشوف نفسها عليا.
علق عليه ممدوح مشيرا بيده
إنت بكده بتعقدها في حياتها!
نظر تجاهه واستطرد ساخرا بكلمات مبطنة كان متأكد أن مغزاها وصل إليه كاملا
كفاية الدلع اللي شايفاه على إيدي.
تصنع الضحك وأخبره غامزا بعينه
وإنت سيد مين يدلع .. بالكرباج!
ضغط على كلمته الأخيرة ليشير إلى ساديته ووحشيته في التعامل مع زوجته وإھانتها دوما. ابتسم
مهاب في فخر ورد
بالظبط.
دون كلام عرض ممدوح على رفيقه إعادة ملء كأسه بالمشروب فوافق وأعطاه له نهض للمرة الثالثة ليعبئ الكأس مستطردا في مكر
بقولك إيه أنا محتاج قرشين كده أمشي بيهم أموري.
وسد مهاب ذراعه خلف رأسه ليستريح عليه وسأله مستفهما
ناوي على صيدة جديدة
التف ناظرا إليه وهو يؤكد له شكوكه
يعني حاجة زي كده والفلوس اللي معايا خلصت.
وقتئذ قام مهاب واقفا واتجه إلى الخزانة الموضوعة بجوار المكتب على طاولة صغيرة مستقلة فتحها بمفتاحها الذي أخرجه من جيب بنطاله وأخرج من رزم الأوراق النقدية اثنتين ألقاهما على سطح مكتبه في إهمال ثم أشار لهما قائلا بلهجة بدت آمرة
خد دول.
لم يمانع ممدوح أي لهجة يخاطبه بها المهم أن يحصل على ما يجعله دوما يظهر بشكل مادي لائق أمام علية القوم. ناوله كأسه المملوء بالشراب المسكر وسار نحو المكتب ليلتقط النقود وهو يشكره في نبرة تضمنت لمحة تهكم
تسلم يا صاحبي ومبروك مقدما.
أخذت الكلمات تنسل من جوفه متدافعة كالسيل وهو يقص على زوجته الوظيفة التي حصل عليها مصادفة وإن كانت تفاصيلها غير واضحة بعد. انعكست الفرحة عليه وأراد مشاركة حماته سعادته فاستأذن بالدخول إلى غرفتها. ظلت الحماسة تشوب صوت عوض وهو يكلمها بوجه بشوش ونظرات متفائلة
أهل الخير كتير وإن شاءالله يا حاجة هنوديكي عند أحسن دكتور في البلد.
ثم استدار برأسه متطلعا إلى زوجته ليكمل باقي جملته
الشيخ عبد الستار وعدني هيكلم حد من معارفه وهيتكفل بكل حاجة.
ردت فردوس في رجاء طامح
ياه لو ده حصل يا عوض.
أكد لها عن يقين
هيحصل استبشري خير بس.
ارتكزت نظراتها على جسد والدتها المسجي على الفراش وقالت بعينين تلمعان بالدموع
نفسي أشوف أمي واقفة على رجلها من تاني.
نهض واقفا ليدنو منها ربت بخفة على كتفها هاتفا
بإذن الله احنا هنعمل اللي علينا وربنا يكرم.
لفظت الهواء بقوة وعقبت
يا مسهل الحال يا رب.
بعدئذ تجاوزته فردوس لتقترب من فراش والدتها تطلعت إليها وهي تمسح الدموع العالقة في أهدابها متسائلة
سامعة يامه الكلام
چثت على ركبتها أمامها وراحت تضيف في صوت مفعم بالأمنيات
بكرة هتخفي وتروقي وترجعي تنزلي الحتة وتنوريها.
التعبير الجامد على وجه والدتها بالإضافة
متابعة القراءة